تحوّل حصول المواطن المصري على الدواء داخل المستشفيات الحكومية من حق مجاني مكفول بالدستور إلى عبء مالي ثقيل، إذ باتت الأدوية تُباع بأسعار السوق داخل الصيدليات التابعة لتلك المستشفيات، في إطار سياسة حكومية تبررها بـ”تنظيم عمليات الصرف” و”الحد من إهدار المال العام”.
وترى أوساط طبية أن هذه الإجراءات تهدف بالأساس إلى تقليص الإنفاق على المرضى، عبر تحديد قيمة الدواء المسموح صرفه بناءً على الخطابات الصادرة للعلاج على نفقة الدولة. ويعتبر نواب في البرلمان هذا النهج تمهيدًا لتحويل الخدمة الصحية من مسؤولية عامة إلى سلعة لا يحصل عليها إلا القادرون على الدفع، في ظل خطط لتحويل إدارة بعض المستشفيات العامة إلى القطاع الخاص.
وقد بدأت الحكومة المصرية بالفعل تنفيذ خطوات لخصخصة المرافق الصحية، من خلال فتح باب التفاوض مع صناديق استثمار خليجية لشراء حصص في مستشفيات وشركات أدوية حكومية. ويدعم هذا التوجه قانون صدر في يونيو/حزيران 2024، يسمح بتأجير المستشفيات العامة للمستثمرين لمدة تصل إلى 15 عاماً تحت مبرر “تطوير الخدمة”.
وسبق إصدار القانون طرح 45 مستشفى حكوميًا للتأجير، من بينها مراكز كبرى مثل مبرة المعادي ومستشفى العجوزة وهليوبوليس، في حين أعلنت وزارة الصحة تأجير خمسة مستشفيات أخرى بالفعل في محافظتي القاهرة والجيزة.
وفي سياق متصل، تنظر محكمة القضاء الإداري في دعوى مقدمة من المحامي خالد علي وعدد من الأطباء، تطالب بوقف قرارات خصخصة المستشفيات العامة والطعن في قانونيتها، خاصة أن عمليات الطرح تمت قبل صدور اللائحة التنفيذية للقانون الجديد، مما قد يُعرض حقوق المواطنين والأطباء للخطر.
وتعتزم الحكومة طرح 160 مستشفى من أصل 662 أمام المستثمرين خلال العامين القادمين، وهو ما يهدد إمكانية حصول ملايين المصريين على العلاج المجاني، رغم أن المادة 18 من الدستور تنص على أن “لكل مواطن الحق في الصحة، وفي الرعاية الصحية المتكاملة”، وتلزم الدولة بالحفاظ على المرافق الصحية العامة ودعمها.
وفي هذا السياق، يقول النائب ضياء الدين داوود إن ما يحدث يمثل انسحاباً حكومياً من مسؤوليتها تجاه القطاع الصحي، وتخلياً عن دعم المواطنين في وقت يعانون فيه من أزمة اقتصادية خانقة بفعل سياسات صندوق النقد الدولي وارتفاع معدلات التضخم.
ويُثير هذا التحول قلقًا متزايدًا من احتكار القطاع الطبي، خصوصًا مع دخول مستثمرين كبار إلى السوق، وارتفاع أرباح المستشفيات الخاصة التي باتت تجذب استثمارات ضخمة، ما جعل قطاع الصحة ثاني أكثر القطاعات الاقتصادية استحواذًا في مصر.
ويُشار إلى أن أسعار أكثر من 2200 صنف دوائي ارتفعت نهاية عام 2024، بنسبة تجاوزت 50% في المتوسط، وسط اتجاه لرفع الأسعار بشكل شامل حتى نهاية عام 2025. وشملت الزيادات معظم المضادات الحيوية ومضادات الفيروسات وأدوية الأمراض المزمنة.
وتعتمد مصر بنسبة كبيرة على استيراد المواد الخام الدوائية، إذ تنتج المصانع المحلية نحو أربعة مليارات وحدة دوائية سنويًا، بقيمة تتجاوز 3.5 مليار دولار، بينما تحتاج البلاد شهريًا لنحو 100 مليون دولار لتأمين مستلزمات الإنتاج.
وتفرض الهيئة المصرية للشراء الموحد حصصاً شهرية لبيع الأدوية لشركات التوزيع والصيدليات الحكومية بناء على وفرة الدولار، في حين تدرس هيئة الدواء تطبيق نظام “السعر الحر” بدلاً من التسعير الإلزامي المعتمد منذ عام 2012، ما قد يؤدي إلى تحرير أسعار الدواء بالكامل.
ووفق تصريحات مساعد رئيس الهيئة، ياسين رجائي، تعمل الحكومة على تحديث آلية تسعير الدواء لتكون أكثر مرونة وشفافية، مع الإبقاء على الرقابة الرسمية، في محاولة لإيجاد توازن بين مصالح المصنعين والمستهلكين.
في غضون ذلك، أُدرجت شركتا “سيد” و”مصر للمستحضرات الطبية” ضمن قائمة تضم 35 شركة حكومية مطروحة جزئياً أمام مستثمرين استراتيجيين أو للطرح في البورصة، وقد أبدى مستثمرون من الإمارات وقطر رغبتهم في الاستحواذ على نسب تصل إلى 30% من الشركتين.
ورغم أن مصر تحقق نسبة اكتفاء ذاتي من الأدوية تصل إلى 91.3%، فإنها لا تزال تعتمد على الاستيراد في عدد من الأدوية المتخصصة، وتواجه أزمة إنتاج الأدوية الرخيصة بعد توقف العديد من الشركات عن تصنيعها نتيجة ارتفاع التكاليف وتراجع الدعم الحكومي.