لم تكد تنتهي تداعيات أزمة نقص الأدوية التي ضربت السوق المصري لثلاث سنوات متتالية، حتى انفجرت أزمة جديدة أكثر تعقيدًا وخطورة في الأسابيع الماضية، تمثلت في اختفاء عدد من الأدوية الحيوية، لا سيما تلك الخاصة بعلاج الأمراض المزمنة والمستعصية، مثل أمراض القلب والضغط والسكري والغدة الدرقية، بالإضافة إلى أدوية الأورام والمناعة، وأدوية زراعة الكبد والكلى، وضمور العضلات، فضلًا عن اختفاء ألبان الأطفال والمعدات الطبية والأجهزة التعويضية.
سوق سوداء نشطة و”مافيا” جديدة للأدوية
الأزمة أعادت ظاهرة السوق السوداء إلى الواجهة، حيث انتشرت عروض بيع الأدوية النادرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وسط ما يمكن وصفه بظهور “مافيا” جديدة لبيع بواقي الأدوية، بعضها يحتوي على مواد مخدرة يُمنع تداولها دون وصفة طبية. هذا الوضع يعكس غياب الرقابة وفساد المنظومة التوزيعية.
عجز إنتاجي متصاعد ومصانع تتوقف
مصدر رفيع في هيئة الدواء أكد أن تفاقم الأزمة مرجّح خلال الربع الثاني من العام الجاري، نتيجة توقف العديد من خطوط الإنتاج في المصانع، وعدم قدرتها على رفع طاقتها الإنتاجية، بسبب نقص واردات مستلزمات الإنتاج، وهو ما دفع بعض المصانع إلى التوقف الكامل.
وتعود الأزمة إلى فشل هيئة الشراء الموحّد — الجهة الحكومية المكلفة باستيراد مستلزمات الدواء — في الالتزام بتوريد المواد الخام رغم الاتفاقيات الموقعة مع الشركات، والتي دفعت مسبقًا ما يقارب مليار دولار من خلال قروض مصرفية بفوائد تراوحت بين 15% و30%.
دولار مفقود وديون متراكمة
في ظل عدم توفر الدولار، تجد شركات الأدوية نفسها في مواجهة أزمة سيولة خانقة. هذه الشركات سددت قيمة الطلبيات بالجنيه المصري، لكن هيئة الشراء لم تلتزم بجداول التوريد، رغم حصولها على موافقات من الحكومة والبنك المركزي. النتيجة: مواد خام غير متوفرة، وخسائر متراكمة.
البحث عن الدولار… خارج الحدود
مع تفاقم الأزمة، لجأت بعض الشركات إلى زيادة صادراتها من الأدوية لتأمين العملة الصعبة اللازمة للاستمرار، بينما تسعى شركات أخرى لعقد شراكات مع كيانات دوائية عربية أو أجنبية، لضخ استثمارات تساعدها على البقاء، أو حتى الخروج التدريجي من السوق المحلي مع الحفاظ على دورها كشريك توزيع.
مبادرات حكومية على الورق فقط
رغم إطلاق الحكومة في 2024 مبادرة لتوطين إنتاج 280 مادة خام دوائية، فإن المشروع لم يحقق أي تقدم فعلي بسبب غياب الدعم المالي. كما فشلت الحكومة في تخصيص موازنات كافية لتوفير قروض ميسّرة للشركات الصغيرة والمتوسطة، التي كانت تهدف إلى ضمان استمرار إنتاج الأدوية الشعبية بأسعار مناسبة.
المستشفيات تتحول إلى مشاريع ربحية
تحويل صيدليات المستشفيات العامة إلى وحدات ربحية ساهم في تعميق الأزمة، حيث أصبحت هذه الصيدليات تفضّل بيع الأدوية المستوردة كاملة الصنع لتحقيق هوامش ربح أعلى، بينما تتجاهل سداد ديونها لشركات التوزيع والمصانع المحلية، والتي تقدر بنحو 15 مليار جنيه.
الصناعة تختنق بتغيرات غير مدروسة
رئيس شعبة الدواء بالغرفة التجارية علي عوف أكد أن أزمة نقص الأدوية تعود أيضًا إلى التعديلات الدورية في معايير الإنتاج التي تفرضها هيئة الدواء، ما يحمّل المصانع أعباء إضافية، خصوصًا في ظل الزيادة الكبيرة في سعر الدولار مقابل الجنيه بنسبة بلغت 40% منذ مارس 2024، حيث تعتمد الشركات على استيراد 91% من مكونات الأدوية.
احتكار حكومي يضاعف الأزمة
تؤكد مصادر من غرفة صناعة الدواء أن احتكار هيئة الشراء الموحّد لعمليات الاستيراد أدى إلى ارتباك كامل في سلاسل الإنتاج والتوزيع، كما ساهم تدخل جهات سيادية في تسويق وتوزيع الأدوية بخلق بيئة غير تنافسية. أما شركة “المتحدة للصيادلة” التابعة لتلك الجهات، فقد راكمت ديونًا بقيمة 8 مليارات جنيه، ما عمّق أزمة المصانع والموردين.
شركات تتوقف عن إنتاج الأدوية “الرخيصة”
بعض الشركات فضّلت وقف إنتاج الأدوية رخيصة الثمن أو الامتناع عنها تمامًا، لتقليل الخسائر، في حين عانت شركات أخرى من أزمة سيولة حادة دفعتها إلى التركيز فقط على الأدوية الأعلى ربحية.
مرضى بلا أمل… وحلول مفقودة
المدير السابق لمعهد الأورام بجامعة القاهرة، د. مدحت خفاجي، حذّر من استمرار أزمة السيولة، مؤكدًا أن معظم شركات الأدوية باتت عاجزة عن تغطية تكاليف التشغيل، ما يهدد استمرارية الإنتاج. ودعا خفاجي المواطنين إلى تقبّل استخدام الوصفات البديلة للأدوية التي يقررها الأطباء، لتقليل الاعتماد على المواد الخام المستوردة.
كما أشار إلى خطورة الإفراط الكبير في استخدام المضادات الحيوية في مصر، بما يفوق المعدلات العالمية، وهو ما يزيد من مخاطر مقاومة البكتيريا، ويضعف فاعلية العلاج ويرفع التكاليف.
أزمة الدواء… أزمة نظام
يبلغ عدد شركات الأدوية العاملة في مصر 180 شركة، تغطي نحو 90% من احتياجات السوق المحلي، فيما يتم استيراد 10% من الأدوية جاهزة من الخارج، معظمها لعلاج الأورام والأمراض المزمنة. لكن في ظل غياب رؤية استراتيجية حقيقية، تبقى أزمة الدواء مرآةً لأزمة أعمق تتعلق بكفاءة النظام الصحي وقدرته على الاستجابة للاحتياجات الأساسية للمواطنين.