لولا الصمود الأسطوري للمقاومة وشعب غزة خلال الأشهر الثمانية الماضية، ما كان العرض الأمريكي الأخير لوقف إطلاق النار على حماس، وسواء كان ذلك مناورة أمريكية إسرائيلية كما حدث من قبل لكسب مزيد من الوقت لتنفيذ هدفهما المشترك للقضاء على المقاومة، أو كان ذلك بعد نهاية مهلة أتاحها الرئيس الأمريكي للإدارة الإسرائيلية حتى تنفذ أهدافها، قام خلالها بدعمهما عسكريا وسياسيا وإعلاميا، وجلب لها مشاركة من العديد من الدول الأوربية كبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها، إلا أن الأمر الواضح للجميع أن الأهداف التي وضعتها الإدارة الإسرائيلية عند غزوها البري لغزة لم تتحقق. فلم تستطع القضاء على المقاومة التي ما زالت تكبد قوات الاحتلال الخسائر في الأفراد والمعدات، أو إطلاق سراح الرهائن أو تحقيق السيطرة الكاملة على غزة، فما إن تجلو قوات الاحتلال من منطقة إلا وتفاجأ بوجود هجمات عليها من المقاومة فيها، وها هو الصمود الأسطوري لشعب غزة مستمرا، رغم ما لحق به من خسائر غير مسبوقة بالأفراد والبيوت والمرافق، وإبادة كاملة للعديد من العائلات.
ومن هنا، يمكن الخروج بعدد من المتغيرات التي تحققت للقضية الفلسطينية، بعد ثمانية أشهر من الصمود ومواجهة العدو حسب الإمكانيات المتاحة، ورغم الفرق الكبير في التجهيزات العسكرية، والعون الأمريكي والغربي الذي عبر عنه الرئيس الأمريكي خلال عرضه للمبادرة الأخيرة لوقف إطلاق النار؛ بأنه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي زار إسرائيل وقت الحرب، وأن القوات الأمريكية تصدت للهجوم الإيراني على إسرائيل، وهو ما تكرر من قبل القوات البريطانية حينذاك.
تآمر الحكام العرب للقضاء على المقاومة
القضاء على أساطير إسرائيلية عديدة تم ترديدها طوال العقود الماضية، باعتبار إسرائيل صاحبة الجيش الذي لا يُقهر بما لديه من معدات حديثة وأجهزة استخبارات وجنود مدربين، حيث استطاعت المقاومة إثبات عدم صحة تلك الخرافات عمليا
أولا: إثبات المقاومة الفلسطينية قدرتها على الإعداد والتخطيط والتنفيذ منذ بداية عملية طوفان الأقصى وحتى الآن، وتلاحم الشعب الغزاوي معها، صامدا أمام حرب التجويع والإبادة الجماعية، وتحمل معاناة القصف المستمر والنزوح المتكرر إلى أماكن غير مجهزة للسكن، وعدم التأثر بالحرب النفسية التي أججتها وسائل إعلام غربية وعربية لشق الصف الغزاوي، وامتداد المقاومة إلى الضفة الغربية رغم التوسع في القتل والاعتقال وتواطؤ السلطة الفلسطينية تجاههم.
ثانيا: القضاء على أساطير إسرائيلية عديدة تم ترديدها طوال العقود الماضية، باعتبار إسرائيل صاحبة الجيش الذي لا يُقهر بما لديه من معدات حديثة وأجهزة استخبارات وجنود مدربين، حيث استطاعت المقاومة إثبات عدم صحة تلك الخرافات عمليا؛ بداية من اجتياز السور العازل لغزة، إلى مهاجمة القواعد العسكرية في غلاف غزة وأسر عدد من جنودها، إلى تدمير عشرات الآليات للعدو واختراق القبة الحديدية وما شاببها من وسائل دفاع جوى، ووصول الصواريخ الفلسطينية إلى تل أبيب ومدن إسرائيلية أخرى حتى قبل أسبوع.
ثالثا: كشْف تآمر العديد من الدول العربية على المقاومة وتنسيقهم المستمر مع إسرائيل، وانصياعهم للتعليمات الأمريكية والغربية للنيل من المقاومة والمساهمة في تجويع شعب غزة، بل ومتاجرة بعض تلك الدول بمواقفها المتواطئة للحصول على مكاسب غربية، مثلما حدث مع مصر والأردن والسعودية وغيرها، ومنعها لأية مظاهر للتأييد الشعبي للمقاومة، وعدم مشاركتها لجنوب أفريقيا في دعواها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وبما يؤكد أن تحرير فلسطين يبدأ من تحرير الدول العربية من هؤلاء الحكام.
كشف تآمر العديد من الدول العربية على المقاومة وتنسيقهم المستمر مع إسرائيل، وانصياعهم للتعليمات الأمريكية والغربية للنيل من المقاومة والمساهمة في تجويع شعب غزة، بل ومتاجرة بعض تلك الدول بمواقفها المتواطئة للحصول على مكاسب غربية
ورافق ذلك روح الفردية والأنانية التي عمت الكثيرين من العرب، والاستكانة لمواقف الخذلان رغم تكرار عمليات الإبادة الجماعية، وتمادي البعض في الفجور بالنيل من المقاومة عبر مواقع التواصل الاجتماعي إرضاء لحكامهم. إلا أن الصورة العربية والإسلامية الشعبية لم تخلُ من جوانب مشرقة، حيث عبرت قطاعات شعبية أخرى عن تأييدها للمقاومة ومحاولة توصيل المساعدات لها، وما واكب ذلك من حملات مقاطعة للسلع ولفروع الشركات التي ساندت إسرائيل، إلى جانب الدعاء المكثف والمستمر، رغم التفاوت الكبير في موازين القوة.
مواقف صورية للمنظمات الدولية لرد المظالم
رابعا: تبيان أن الخصم الأكبر للعرب والمسلمين يتمثل في الولايات المتحدة التي عطلت كل محاولة لوقف إطلاق النار، وحلفائها من الدول سواء في أوروبا أو آسيا أو الأمريكتين، في مواقف كاشفة للمعايير المزدوجة بالمقارنة بما فعلته مع شعب أوكرانيا في ظل عدوان روسيا عليه، وكاشفة لخرافة دفاع تلك الدول عن حقوق الإنسان التي ظلت تتشدق بها لسنوات طويلة، حين لم تر فيما قامت به إسرائيل من مجازر متعددة وقصف للمستشفيات ومحرقة رفح الأخيرة أمرا يرقى لمرتبة الإبادة الجماعية.
وهذا يرتبط بالثبوت العملي لخرافة إمكانية تحقيق سلام مع إسرائيل، والذي ما زالت السلطة الفلسطينية وغالبية الدول لعربية تتحدث عنه، حيث توافق الجميع في الداخل الإسرائيلي على إبادة غزة؛ لا فرق لديهم بين طفل وامرأة وصبي، بدعوى أن الطفل هو مشروع مقاتل مستقبلا والمرأة بمثابة المُنتجة لهؤلاء المقاتلين.
خامسا: صورية مواقف المنظمات الدولية من تحقيق العدالة ونصرة المظلوم، حيث داست إسرائيل بدعم أمريكي غربي على كل قرارات منظمات الأمم المتحدة، لا فرق في ذلك بين مجلس الأمن أو الجمعية العامة أو محكمة العدل الدولية، وصورية مواقف العديد من الدول التي تدعي صداقة العرب لمصالح تجارية وعسكرية وسياسية، وأبرزها الصين وروسيا اللتان لم تفعلا شيئا ملموسا لمساعدة الشعب الفلسطيني في معاناته المستمرة، حيث وجدتا في استمرار الحرب وسيلة لشغل الجانب الأمريكي بعض الوقت عن خلافه معهما، وهو ما تكرر بشكل أكثر سلبية مع اليابان والهند اللتين كانتا تدعيان الصداقة مع العرب.
سادسا: وجود تيار إنساني عالمي رافض للعربدة الإسرائيلية عبر عن نفسه من خلال العديد من التظاهرات المطالبة بوقف الحرب، في العديد من المدن الغربية، والتي امتدت إلى العديد من الجامعات الأمريكية والأوربية بل وإلى كندا وأستراليا، رغم القيود والعقوبات التي تعرض لها الكثيرون، ورغم التحيز الواضح من قبل وسائل الإعلام الغربية لتبنى الرواية الإسرائيلية للأحداث ومنع الرواية الفلسطينية، والحظر الذي مارسته العديد من مواقع التواصل الاجتماعي تجاه التدوينات المساندة لفلسطين، أو التي تعرض مقاطعا لجرائم الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل بغزة.
وأبدت عدد من الدول الأوربية مواقف محترمة تجاه الفضية الفلسطينية، مثل إسبانيا وأيرلندا والنرويج وبلجيكا وسلوفينيا وغيرها، وسبقتها مواقف مؤيدة للحق الفلسطيني في العديد من دول أمريكا اللاتينية مثل: بوليفيا وكولومبيا وتشيلي وهندوراس وجامايكا وبليز، رغم الضغوط الأمريكية وامتدت المؤازرة للمطالبة بوقف إطلاق النار إلى جنوب أفريقيا والبرازيل.
الحذر من الخداع الإسرائيلي والأمريكي
سابعا: وجود تصدعات بالداخل الإسرائيلي تمثلت في الخلافات بين الأحزاب الرئيسية وقيادات مجلس الحرب، والتظاهرات من جانب أُسر الأسرى لوقف الحرب، وزيادة معدلات طلبات الهجرة للخارج، وتأثر الاقتصاد الإسرائيلي سلبا بطول فترة الحرب، وتراجع الإقبال على المشاركة بالحرب من قبل جنود الاحتياط، وكثرة عدد القتلى الإسرائيليين في الحرب بالمقارنة بما يتم إعلانه رسميا.
ما زال هناك شبه إجماع إسرائيلي على استمرار الحرب حتى تحقق أهدافها المعلنة، بعد أن أصبحت تتعلق بالوجود الإسرائيلي أساسا، وتوقع قيام الولايات المتحدة وحلفائها بتعويض إسرائيل عن قدر كبير من خسائرها المالية والعسكرية. وإذا كانت عزلة إسرائيل قد تزايدت دوليا، فما زالت تنعم بمؤازرة قوى دولية كبيرة
لكننا لا بد أن ندرك أنه ما زال هناك شبه إجماع إسرائيلي على استمرار الحرب حتى تحقق أهدافها المعلنة، بعد أن أصبحت تتعلق بالوجود الإسرائيلي أساسا، وتوقع قيام الولايات المتحدة وحلفائها بتعويض إسرائيل عن قدر كبير من خسائرها المالية والعسكرية. وإذا كانت عزلة إسرائيل قد تزايدت دوليا، فما زالت تنعم بمؤازرة قوى دولية كبيرة.
ورغم العرض الأمريكي الأخير لوقف إطلاق النار فإننا يجب أن نحذر الخداع الأمريكي، من أجل الحصول على الرهائن وإفقاد المقاومة ذلك العامل التفاوضي المُؤثر، وربما السعي لتهدئة الأجواء حتى تمر الانتخابات الأمريكية ثم السماح لإسرائيل باستمرار عدوانها للقضاء على المقاومة، بعد أن تكون قد نظمت صفوف جيشها ومكوناتها الداخلية.
وكذلك يجب الحذر من سبل التواطؤ من قبل الحكام العرب الذين لن يتورعوا عن تنفيذ كل ما تطلبه منها أمريكا وإسرائيل أملا في الحماية الأمريكية والإسرائيلية لها، سواء بالمشاركة في قوات دولية داخل غزة للحد من هجمات المقاومة، ليصبح الصراع بين تلك القوات العربية والمقاومة، وكذلك المشاركة في الحصار الخانق حول غزة باستمرار منع الغذاء والدواء والوقود والاتصالات عنها، أو غيرها من الألاعيب التي لن تتوقف أمريكا إسرائيل عن اتخاذها حتى تحقق أهدافها وعدم السماح للمقاومة بتحقيق النصر، وهي الأمور التي لا بد أن تكون قوى المقاومة قد وضعتها في حساباتها، في ضوء ما شهدناه من تحكم وسيطرة على مشهد الصراع عسكريا وسياسيا من قبل المقاومة، ليس فقط طوال الأشهر الثمانية الأخيرة ،بل منذ إدارتها لغزة عام 2007، وربما قبل ذلك مع نشأة حماس عام 1987 وما قامت به من عمليات مقاومة طوال تلك السنوات السبع والثلاثين الماضية، ومقاومتها للحصار الأمريكي والأوربي لها منذ فوزها بالانتخابات البرلمانية عام 2006.