بقلم الدكتور سيف عبدالفتاح
من المهم أن نرى تلك الحالة التطبيعية ضمن السياقات التي كشفت عنها معركة طوفان الأقصى، إذ أن تلك القابليات قد شكلت بحق مناخا ولد فيه التطبيع بكافة مستوياته وأشكاله ومداخله التي تطورت للأسف الشديد إلى تحالفات، إذ فاقت التطبيع بمفهومه التقليدي إلى تحالفات وربما تحالفات استراتيجية كما في الحالة الإماراتية.
أما عن الاحتلال والعدوان فشكلت استراتيجيات التطبيع أحد أهم أركان السياسات المتعلقة بالكيان الصهيوني، التي تسللت وبشكل مبكر ضمن مشروعها عبر أشكال ومستويات عدة مما عُرف بـ”الصهيونية المتسللة” لإعلان دولة إسرائيل؛ إنها تريد أن تكسب بالتطبيع واتساعه ما لم تحصل عليه بالحروب المتكررة.
في هذا الواقع السياسي، يغدو التطبيع أهم من أي وقت مضى بالنسبة إلى رؤية نتنياهو، وإلى التوقيت الذي هو، على ما يبدو، ملائم للإجهاز كليا على القضية والحركة الوطنية الفلسطينيتين، ولقتل الأمل بالانتصار على الصهيونية، وذلك عبر تجفيف جميع منابع القوة الفلسطينية، بهدف القضاء على كل أشكال المقاومة ومحاصرتها. وقد شكلت “صفقة القرن” عنوانها وسرديتها،
سياسات تسوية القضية الفلسطينية ومشاريع تصفيتها، من خلال ما أُسمي بـ”صفقة القرن”، والتي أريد بها ومن خلالها تصفية الشعب الفلسطيني والعمل على إنهاء قضيته. ومدخل التعامل الدولي مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية لاجئين بالمقام الأول والأخير؛ ولم يُتعامل معها باعتبارها قضية تقرير مصير وتحرر وشعب بأسره يقع تحت الاحتلال
وهي تقوم على عدم الانسحاب ورفض إخلاء أي مستعمرة في الضفة الغربية. ومع أن الصفقة فشلت مؤقتا حينها ومنذ إعلانها في فترة الحكم السابقة للرئيس ترامب؛ إلا أنها مستمرة من حيث الواقع ولو بأشكال أخرى حتى الآن، وهو ما حدا بالرئيس “بايدن” أن يعلن بعد يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر أنهم يريدون أن يفشلوا جهود التطبيع التي كانت تسعى إليها الإدارة الأمريكية في حقبته.
إلا أن صفقة القرن شكلت ومنذ إعلانها فرصة في الوقت ذاته، للانكشاف على ماذا يعني حل الصراع بالنسبة إلى نتنياهو واليمين الإسرائيلي، ولا سيما أن نتنياهو كان شريكا في صوغها وفي مداولات ترسيمها، ووضع خطوطها العريضة والرفيعة على حد قول أحد الباحثين. وفي الحقيقة، فإنها لا يمكن تسميتها صفقة بقدر ما هي وثيقة استسلام للواقع القائم في إطار تصفية القضية الفلسطينية وصناعة سردية جديدة وذاكرة مستجدة؛ تقبل بالكيان الصهيوني وتتحالف معه ضمن خطة ممتدة لاتساع ظاهرة التصهين، فضلا عن طمس السردية والذاكرة التي تذكر بأصل الظاهرة الاستيطانية الصهيونية في الاحتلال والعدوان وشرعية المقاومة ما دام الاحتلال حتى التحرير.
إن سياسات تسوية القضية الفلسطينية ومشاريع تصفيتها، من خلال ما أُسمي بـ”صفقة القرن”، والتي أريد بها ومن خلالها تصفية الشعب الفلسطيني والعمل على إنهاء قضيته. ومدخل التعامل الدولي مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية لاجئين بالمقام الأول والأخير؛ ولم يُتعامل معها باعتبارها قضية تقرير مصير وتحرر وشعب بأسره يقع تحت الاحتلال.
إن “صفقة القرن” جاءت متجاوزة في جملة من التنازلات المفروضة على الجانب الفلسطيني، وأهمها الاعتراف بيهودية دولة “إسرائيل”، والتنازل عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، والاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل.
أما عن الاستبداد والطغيان فيمكن العودة لعبد الرحمن الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”. فهذا الكتاب الذي يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، والذي دفع مؤلفه الحلبي حياته ثمنا له، يفتح لنا باب إعادة النظر في حياتنا الحاضرة وفي لغتنا؛ الكواكبي الذي كشف عن تشريح الظاهرة الاستبدادية فكتب عن طبيعة الاستبداد، وشرح علاقة الاستبداد بالاستعباد، وحلل بنية الاستبداد وفككه إلى عناصره المتعددة وتشكلاته المختلفة في ساحات ومساحات متنوعة؛ تسلل وتمكن فيها وأحكم قبضته.
الاحتلال والعدوان وكذا الاستبداد من جانب آخر ملة واحدة؛ يجمع فيما بينهما سلب الحرية واغتصاب الشعوب. إن أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية في بقاع ممتدة من أمتنا؛ تربط مصيرها بالصهاينة ليس فقط حماية لها من غضبة الشعوب، ولكن كون هذا التطبيع الذي يخرج من رحم الطغيان جواز مرور لشرعنة هذه النظم والحفاظ على كراسيها في عروش طاغية ونظم مستبدة عاتية
قلنا مبكرا إن الاحتلال والعدوان وكذا الاستبداد من جانب آخر ملة واحدة؛ يجمع فيما بينهما سلب الحرية واغتصاب الشعوب. إن أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية في بقاع ممتدة من أمتنا؛ تربط مصيرها بالصهاينة ليس فقط حماية لها من غضبة الشعوب، ولكن كون هذا التطبيع الذي يخرج من رحم الطغيان جواز مرور لشرعنة هذه النظم والحفاظ على كراسيها في عروش طاغية ونظم مستبدة عاتية.
الكل يرتمي في أحضان داعميهم؛ الطغيان الصغير في تلك الأنظمة يلوذ بالطغيان الكبير المتمثل في مستكبري النظام الدولي، لذلك شكّل التطبيع مع الكيان الصهيوني عقدا من العقود الفاسدة من بعض أنظمة هذه الأمة، تستبدل شرعيتها لدى طغاة النظام الدولي وكيان العدو الصهيوني بشرعيتها في الأمة ورضا شعوبها؛ كجوهر حقيقي لمسألة الشرعية في أساسها الذي يتعلق بالرضا النابع لا الرضا الكاذب والرضا التابع قبولا بمعادلة باطلة وعقد فاسد بين طغيان الخارج وطغيان الداخل؛ والتي كان ميدانها التطبيع الآثم.
أما عن الانهزام والخذلان؛ فالخذلان حالة مُشاهدة للأمة ملحقة بما سبق من احتلال وعدوان؛ واستبداد وطغيان؛ وعقد بينهما يتسم بالبطلان؛ وهي ترتبط بحال المهانة وقابليات الهوان. أما عن الوهن والمهانة والإهانة والهوان؛ إنها رباعية المهانة؛ والمهانة غَدت شكلا للحكم ونَمطا لتدبير المجتمعات وطنيا وعالميا، على ما يؤكد عالم المستقبليات القدير “المهدي المنجرة”. ذلك أن القوى العالمية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، تُمارس الإذلال على بلدان العالم، حيث تَنصاع لذلك كثير من الدول من غير اعتراضات، قبل أن تُمارس هذه الدول الإذلال بِدَورها على جماهيرها ذاتها، لهذا فإن الأخيرة تُعاني من ذُلّ مُزدوج يَنضاف إليه ذُلّ ثالث هو الذُلّ الذاتي ويتمثل في الامتناع عن الفعل.
ويرى المهدي بأنّ الإهانة تنبع من إرادة واعية في التعدّي على كرامة الآخرين، وليس فقط من الهيمنة، ويشير إلى أن هذا الشَطَط الميغا إمبريالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وتحالفاتها ذات الهندسة العولمية المتنوعة، يُعدُّ شكلا جَديدا من أشكال الفَاشيّة، التي لا تترك حيزا كبيرا للتسامح واحترام الآخر، بل ولا تترك حيّزا للعدالة أيضا، وهي سلاح مدمر مُوجّه ضد الكرامة الإنسانية. ويرى المهدي بأن هذا هو إرهاب الدولة الذي يُمثّل الأداة الجديدة للدولة الفَتّاكة، الذي أصبح يُسمَّى النظام العالمي الجديد، وأن هذا الإرهاب بِنِظَامه العالمي الجديد قد مَارس أعتَى أنواع الإذلالِ على شعوبِ العالم العربي والإسلامي في الوَقت الراهن.
إن حاضر الأمة عبارة عن سلسلة لا متناهية من المَهانات والمَذّلة. فعلى المستوى السياسي ظل تحت وطأة النزاعات الجهوية وغياب المؤسسات الديمقراطية، وفي المستوى الاقتصادي نُلاحظ فشلا شاملا لِنَماذج التنمية التي فرضتها المحافل الدولية في أغلب بلاد العالم الإسلامي، وهذا الانهيار هو المستديم وليس التنمية. ويشير بأنه يأتي بعد ذلك الاستلاب الثقافي الذي يمكن اعتباره الذلّ الأكثر خطرا على المستوى البعيد، لأن الأمر يتعلق بعدوان على أنظمة القيم. يَنضاف إلى ذلك أزمة أخلاقية ناجمة عن الفقرِ والأمّيةِ وغياب العدالة الاجتماعية وخرق حقوق الإنسان في معظم بلدان العالم الإسلامي، وهذه العوامل الخارجية والداخلية تتجلى للعيان وتختل المجتمعات إلى حد الانفجار، وهذا ما أسماه انتفاضات، فالانتفاضات حتمية في العالم العربي والإسلامي.
يتساءل: أين حُكَامنا؟ أين مُثقفونا؟ أين مُبدعونا، كيف نفسر سكونيتنا الخاصة والقبول بمذلة وطنية ودولية كهذه؟ متألما يقول إنه لم يَعدْ أحد يقوم برد فعل إزاء إهانة المقدسات وتدنيس المعتقدات. ويختتم بقوله إن الذل الأكبر في نهاية المطاف حين لا نعود عارفين لمعنى الذل.
السلام الأمريكي الصهيوني الذي شُكلت طبعته في حال الاستسلام المقيم والشعور بالهزيمة المقيم ومواقف الذل والإذلال العميم؛ الذي ظن أهله من الأمة أنه الحكمة والتعقل والواقعية وما كان ذلك إلا وقوعا وسقوطا مريعا
لم يكن هذا النقل المطول عبثا، بل هو من أهم مداخل كيف اصطنع الغرب الكيان الصهيوني حتى يقوم بإذلال الأمة. وقد قام منذ قيامه بهذه الوظيفة بكل فاعلية واستغل كل ثغرة في تمكين سياسات الرباعية الخطيرة التي تسللت إلى كيان الأمة؛ من مهانة تكونت من حال الوهن وقابليات الإهانة وتمكين الهوان، فصارت مستحيلات الكيان الصهيوني ممكنة وممكنات العرب والأمة مستحيلات بفعل الهرولة التطبيعية وصعود ثقافة التصهين وارتقاء العلاقات مع الكيان إلى حد التحالف.
إنه دخول بيت الطاعة الأمريكي الإسرائيلي في تصور السلام الأمريكي الصهيوني الذي شُكلت طبعته في حال الاستسلام المقيم والشعور بالهزيمة المقيم ومواقف الذل والإذلال العميم؛ الذي ظن أهله من الأمة أنه الحكمة والتعقل والواقعية وما كان ذلك إلا وقوعا وسقوطا مريعا.
إن هذه الرباعية التي أوردناها في عنوان المقال ومحاولة تشريحها ولو بشكل مبدئي؛ شكلت سياقات وفي ذات الوقت قابليات خطيرة؛ لآثار ومآلات بئيسة؛ المقاومة لم تكن بعيدة عن هذه السياقات ومثلت تحديا كبيرا لهذه القابليات؛ بل أثرت تأثيرا بليغا لا يستطيع أحد في الأمة أو خارجها أن ينكر ذلك؛ خاصة بعد طوفان الأقصى الذي أذّنت فيه المقاومة في غزة بالمقاومة، إنها البديل الأعلى للأمة المفعم بمقاومة العدوان والاحتلال؛ وضرورات التحرير والتحرر من الاستبداد والطغيان؛ ورفض الواقع المسكون بالهزيمة والخذلان؛ المسكون بالمهانة والوهن والإهانة والهوان..